فصل: (سورة الأنعام: آية 98)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.[سورة الأنعام: آية 98]

{وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98)}.
من فتح قاف المستقر، كان المستودع اسم مكان مثله أو مصدرًا. ومن كسرها، كان اسم فاعل والمستودع اسم مفعول. والمعنى: فلكم مستقرّ في الرحم. ومستودع في الصلب، أو مستقر فوق الأرض ومستودع تحتها. أو فمنكم مستقرّ ومنكم مستودع. فإن قلت: لم قيل {يَعْلَمُونَ} مع ذكر النجوم و{يَفْقَهُونَ} مع ذكر إنشاء بنى آدم؟ قلت كان إنشاء الإنس من نفس واحدة وتصريفهم بين أحوال مختلفة ألطف وأدق صنعة وتدبيرًا، فكان ذكر الفقه الذي هو استعمال فطنة وتدقيق نظر مطابقًا له.

.[سورة الأنعام: آية 99]

{وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)}.
{فَأَخْرَجْنا بِهِ} بالماء {نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ} نبت كل صنف من أصناف النامي، يعنى أن السبب واحد وهو الماء. والمسببات صنوف مفتنة، كما قال: {يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ}. {فَأَخْرَجْنا مِنْهُ} من النبات {خَضِرًا} شيئًا غضا أخضر. يقال أخضر وخضر، كأعور وعور، وهو ما تشعب من أصل النبات الخارج من الحبة {نُخْرِجُ مِنْهُ} من الخضر {حَبًّا مُتَراكِبًا} وهو السنبل. و{قِنْوانٌ} رفع بالابتداء. {ومِنَ النَّخْلِ} خبره. و{مِنْ طَلْعِها} بدل منه، كأنه قيل: وحاصلة من طلع النخل قنوان. ويجوز أن يكون الخبر محذوفا لدلالة أخرجنا عليه، تقديره: ومخرجة من طلع النخل قنوان. ومن قرأ: يخرج منه حب متراكب، كان {قِنْوانٌ} عنده معطوفا على حب. والقنوان: جمع قنو، ونظيره: صنو وصنوان. وقرئ بضم القاف وبفتحها، على أنه اسم جمع كركب، لأنّ فعلان ليس من زيادة التكسير {دانِيَةٌ} سهلة المجتنى معرضة للقاطف، كالشيء الداني القريب المتناول، ولأنّ النخلة وإن كانت صغيرة ينالها القاعد فإنها تأتى بالثمر لا تنتظر الطول. وقال الحسن: دانية قريب بعضها من بعض. وقيل: ذكر القريبة وترك ذكر البعيدة: لأنّ النعمة فيها أظهر وأدلّ بذكر القريبة على ذكر البعيدة، كقوله: {سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ}. وقوله: {وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ} فيه وجهان، أحدهما: أن يراد: وثم جنات من أعناب، أي مع النخل. والثاني: أن يعطف على {قِنْوانٌ} على معنى: وحاصلة، أو ومخرجة من النخل قنوان وجنات من أعناب، أي من نبات أعناب، وقرئ {وَجَنَّاتٍ} بالنصب عطفًا على {نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ} أى: وأخرجنا به جنات من أعناب، وكذلك قوله: {وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ} والأحسن أن ينتصبا على الاختصاص، كقوله: {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ} لفضل هذين الصنفين {مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ} يقال اشتبه الشيئان وتشابها، كقولك استويا وتساويا. والافتعال والتفاعل يشتركان كثيرًا. وقرئ: متشابها وغير متشابه. وتقديره: والزيتون متشابها وغير متشابه، والرمّان كذلك كقوله:
كُنْتُ مِنْهُ وَوَالِدَىَّ بَرِيّا

والمعنى: بعضه متشابها وبعضه غير متشابه، في القدر واللون والطعم. وذلك دليل على التعمد دون الإهمال {انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ} إذا أخرج ثمره كيف يخرجه ضئيلا ضعيفًا لا يكاد ينتفع به. وانظروا إلى حال ينعه ونضجه كيف يعود شيئًا جامعًا لمنافع وملاذ، نظر اعتبار واستبصار واستدلال على قدرة مقدّره ومدبره وناقله من حال إلى حال. وقرئ {وَيَنْعِهِ} بالضم. يقال: ينعت الثمرة ينعًا وينعًا. وقرأ ابن محيصن: {ويانعه}. وقرئ: {وثمره} بالضم.

.[سورة الأنعام: آية 100]

{وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ (100)}.
إن جعلت {لِلَّهِ شُرَكاءَ} مفعولي جعلوا، نصبت الجن بدلا من شركاء، وإن جعلت {لِلَّهِ} لغوا كان {شُرَكاءَ الْجِنَّ} مفعولين قدّم ثانيهما على الأول. فإن قلت: فما فائدة التقديم؟ قلت: فائدته استعظام أن يتخذ للّه شريك مَن كان ملكا أو جنيًا أو إنسيًا أو غير ذلك. ولذلك قدّم اسم اللّه على الشركاء. وقرئ الجن بالرفع، كأنه قيل: من هم؟ فقيل: الجن. وبالجرّ على الإضافة التي للتبيين. والمعنى أشركوهم في عبادته، لأنهم أطاعوهم كما يطاع اللّه. وقيل: هم الذين زعموا أنّ اللّه خالق الخير وكل نافع، وإبليس خالق الشر وكل ضارّ {وَخَلَقَهُمْ} وخلق الجاعلين للّه شركاء. ومعناه: وعلموا أن اللّه خالقهم دون الجن، ولم يمنعهم علمهم أن يتخذوا من لا يخلق شريكا للخالق. وقيل: الضمير للجن. وقرئ: وخلقهم، أي اختلاقهم الإفك، يعنى: وجعلوا للّه خلقهم حيث نسبوا قبائحهم إلى اللّه في قولهم: {وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها}، {وَخَرَقُوا لَهُ} وخلقوا له، أي افتعلوا له بَنِينَ وَبَناتٍ وهو قول أهل الكتابين في المسيح وعزير، وقول قريش في الملائكة يقال: خلق الإفك وخرقه واختلقه واخترقه، بمعنى: وسئل الحسن عنه فقال: كلمة عربية كانت العرب تقولها: كان الرجل إذا كذب كذبة في نادى القوم يقول له بعضهم: قد خرقها واللّه، ويجوز أن يكون من خرق الثوب إذا شقه، أي اشتقوا له بنين وبنات، وقرئ: وخرّقوا بالتشديد للتكثير، لقوله: {بَنِينَ وَبَناتٍ} وقرأ ابن عمر وابن عباس رضى اللّه عنهما: وحرّفوا له، بمعنى: وزوّروا له أولادًا لأنّ المزوّر محرّف مغير للحق إلى الباطل {بِغَيْرِ عِلْمٍ} من غير أن يعلموا حقيقة ما قالوه من خطأ أو صواب، ولكن رميًا بقول عن عمى وجهالة. من غير فكر وروية.

.[سورة الأنعام: آية 101]

{بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101)}.
{بَدِيعُ السَّماواتِ} من إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها، كقولك: فلان بديع الشعر، أي بديع شعره. أو هو بديع في السموات والأرض، كقولك: فلان ثبت الغدر، أي ثابت فيه، والمعنى أنه عديم النظير والمثل فيها. وقيل: البديع بمعنى المبدع، وارتفاعه على أنه خبر مبتدأ محذوف، أو هو مبتدأ وخبره {أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ} أو فاعل تعالى: وقرئ بالجرّ ردًّا على قوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ} أو على سُبْحانَهُ. وبالنصب على المدح، وفيه إبطال الولد من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن مبتدع السموات والأرض وهي أجسام عظيمة لا يستقيم أن يوصف بالولادة، لأنّ الولادة من صفات الأجسام، ومخترع الأجسام لا يكون جسما حتى يكون والدًا.
والثاني: أن الولادة لا تكون إلا بين زوجين من جنس واحد وهو متعال عن مجانس، فلم يصح أن تكون له صاحبة، فلم تصح الولادة.
والثالث: أنه ما من شيء إلا وهو خالقه والعالم به، ومن كان بهذه الصفة كان غنيا عن كل شيء، والولد إنما يطلبه المحتاج. وقرئ: ولم يكن له صاحبة، بالياء.
وإنما جاز للفصل كقوله:
لَقَدْ وَلَدَ الأُخَيْطِلَ أُمُّ سُوءِ

.[سورة الأنعام: آية 102]

{ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102)}.
{ذلِكُمُ} إشارة إلى الموصف مما تقدم من الصفات، وهو مبتدأ وما بعده أخبار مترادفة وهي {اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} أي ذلك الجامع لهذه الصفات {فَاعْبُدُوهُ} مسبب عن مضمون الجملة على معنى: أن من استجمعت له هذه الصفات كان هو الحقيق بالعبادة فاعبدوه ولا تعبدوا من دونه من بعض خلقه. ثم قال: {وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} يعنى وهو مع تلك الصفات مالك لكل شيء من الأرزاق والآجال، رقيب على الأعمال.

.[سورة الأنعام: آية 103]

{لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)}.
البصر: هو الجوهر اللطيف الذي ركبه اللّه في حاسة النظر، به تدرك المبصرات. فالمعنى أن الأبصار لا تتعلق به ولا تدركه، لأنه متعال أن يكون مبصرًا في ذاته، لأن الأبصار إنما تتعلق بما كان في جهة أصلا أو تابعا، كالأجسام والهيئات {وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ} وهو للطف إدراكه للمدركات يدرك تلك الجواهر اللطيفة التي لا يدركها مدرك {وَهُوَ اللَّطِيفُ} يلطف عن أن تدركه الأبصار {الْخَبِيرُ} بكل لطيف فهو يدرك الأبصار، لا تلطف عن إدراكه وهذا من باب اللطف.

.[سورة الأنعام: آية 104]

{قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104)}.
{قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ} هو وارد على لسان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، لقوله: {وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} والبصيرة نور القلب الذي به يستبصر، كما أن البصر نور العين الذي به تبصر أي جاءكم من الوحى، والتنبيه على ما يجوز على اللّه وما لا يجوز ما هو للقلوب كالبصائر {فَمَنْ أَبْصَرَ} الحق وآمن {فَلِنَفْسِهِ} أبصر وإياها نفع {وَمَنْ عَمِيَ} عنه فعلى نفسه عمى وإياها ضرَّ بالعمى {وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} أحفظ أعمالكم وأجازيكم عليها، إنما أنا منذر واللّه هو الحفيظ عليكم.

.[سورة الأنعام: آية 105]

{وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105)}.
{وَلِيَقُولُوا} جوابه محذوف تقديره. وليقولوا درست تصرّفها. ومعنى {دَرَسْتَ} قرأت وتعلمت. وقرئ: دارست، أي دارست العلماء. ودرست بمعنى قدّمت هذه الآيات وعفت كما قالوا: أساطير الأولين، ودرست بضم الراء، مبالغة في درست، أي اشتدّ دروسها. ودرست- على البناء للمفعول- بمعنى قرئت أو عفيت. ودارست. وفسروها بدارست اليهود محمدًا صلى اللّه عليه وسلم، وجاز الإضمار، لأن الشهرة بالدراسة كانت لليهود عندهم. ويجوز أن يكون الفعل للآيات، وهو لأهلها، أي دارس أهل الآيات وحملتها محمدًا، وهم أهل الكتاب. ودرس أي درس محمد. ودارسات، على: هي دارسات، أي قديمات. أو ذات دروس، كعيشة راضية. فإن قلت: أي فرق بين اللامين في لِيَقُولُوا، {وَلِنُبَيِّنَهُ}؟ قلت: الفرق بينهما أنّ الأول مجاز والثانية حقيقة، وذلك أن الآيات صرفت للتبيين ولم تصرف ليقولوا دارست، ولكن لأنه حصل هذا القول بتصريف الآيات كما حصل التبيين، شبه به فسيق مساقه. وقيل: ليقولوا كما قيل لنبينه: فإن قلت: إلام يرجع الضمير في قوله: {وَلِنُبَيِّنَهُ}؟ قلت: إلى الآيات لأنها في معنى القرآن، كأنه قيل: وكذلك نصرف القرآن. أو إلى القرآن وإن لم يجر له ذكر، لكونه معلوما إلى التبيين الذي هو مصدر الفعل، كقولهم: ضربته زيدًا. ويجوز أن يراد فيمن قرأ درست ودارست: درست الكتاب ودراسته، فيرجع إلى الكتاب المقدّر.

.[سورة الأنعام: الآيات 106- 107]

{اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107)}.
{لا إِلهَ إِلَّا هُوَ} اعتراض أكذبه إيجاب اتباع الوحى لا محلّ له من الإعراب. ويجوز أن يكون حالا من ربك، وهي حال مؤكدة كقوله: {وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا}.

.[سورة الأنعام: آية 108]

{وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (108)}.
{وَلا تَسُبُّوا} الآلهة {الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ} وذلك أنهم قالوا عند نزول قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} لتنتهينّ عن سب آلهتنا أو لنهجونّ إلهك. وقيل: كان المسلمون يسبون آلهتهم، فنهوا لئلا يكون سبهم سببا لسب اللّه تعالى.
فإن قلت: سب الآلهة حق وطاعة، فكيف صحّ النهى عنه، وإنما يصح النهى عن المعاصي؟
قلت: ربّ طاعة علم أنها تكون مفسدة فتخرج عن أن تكون طاعة، فيجب النهى عنها لأنها معصية، لا لأنها طاعة كالنهى عن المنكر هو من أجلّ الطاعات، فإذا علم أنه يؤدّى إلى زيادة الشر انقلب معصية، ووجب النهى عن ذلك النهى. كما يجب النهى عن المنكر. فإن قلت: فقد روى عن الحسن وابن سيرين أنهما حضرا جنازة فرأى محمد نساء فرجع، فقال الحسن: لو تركنا الطاعة لأجل المعصية لأسرع ذلك في ديننا. قلت: ليس هذا ممن نحن بصدده، لأنّ حضور الرجال الجنازة طاعة وليس بسبب لحضور النساء فإنهن يحضرنها حضر الرجال أو لم يحضروا، بخلاف سب الآلهة. وإنما خيل إلى محمد أنه مثله حتى نبه عليه الحسن.
{عَدْوًا} ظلمًا وعدوانًا. وقرئ عدوًّا بضم العين وتشديد الواو بمعناه. يقال: هذا فلان عدوًا وعدوًا وعدوانًا وعداء. وعن ابن كثير: عدوًّا، بفتح العين بمعنى أعداء {بِغَيْرِ عِلْمٍ} على جهالة باللّه وبما يجب أن يذكر به {كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ} مثل ذلك التزيين زينا لكل أمّة من أمم الكفار سوء عملهم، أو خليناهم وشأنهم ولم نكفهم حتى حسن عندهم سوء عملهم: أو أمهلنا الشيطان حتى زين لهم أو زيناه في زعمهم. وقولهم إن اللّه أمرنا بهذا وزينه لنا {فَيُنَبِّئُهُمْ} فيوبخهم عليه ويعاتبهم ويعاقبهم.

.[سورة الأنعام: آية 109]

{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (109)}.
{لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ} من مقترحاتهم {لَيُؤْمِنُنَّ بِها}، {قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ} وهو قادر عليها، ولكنه لا ينزلها الا على موجب الحكمة. أو إنما الآيات عند اللّه لا عندي. فكيف أجيبكم إليها وآتيكم بها {وَما يُشْعِرُكُمْ} وما يدريكم {أَنَّها} أن الآية التي تقترحونها {إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ} يعنى أنا أعلم أنها إذا جاءت لا يؤمنون بها وأنتم لا تدرون بذلك. وذلك أن المؤمنين كانوا يطمعون في إيمانهم إذا جاءت تلك الآية ويتمنون مجيئها. فقال عزّ وجلّ وما يدريكم أنهم لا يؤمنون، على معنى أنكم لا تدرون ما سبق على به من أنهم لا يؤمنون به.
ألا ترى إلى قوله: {كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} وقيل: {أنها} بمعنى لعلها من قول العرب: ائت السوق أنك تشترى لحمًا. وقال امرؤ القيس:
عوجا على الطّلل المحيل لأنّنا ** نبكي الديار كما بكى ابن خذام

وتقويها قراءة أبىّ: لعلها إذا جاءت لا يؤمنون. وقرئ بالكسر على أن الكلام قد تمّ قبله بمعنى:
وما يشعركم ما يكون منهم، ثم أخبرهم بعلمه فيهم فقال: أنها إذا جاءت لا يؤمنون البتة. ومنهم من جعل {لا} مزيدة في قراءة الفتح وقرئ: وما يشعرهم أنها إذا جاءت لا يؤمنون. أي يحلفون بأنهم يؤمنون عند مجيئها. وما يشعرهم أن تكون قلوبهم حينئذ كما كانت عند نزول القرآن وغيره من الآيات مطبوعا عليها فلا يؤمنوا بها.